“مطبخ للدبلوماسية العالمية”: جنيف تكافح من أجل الحفاظ على دورها العالمي

تستضيف جنيف نهاية هذا الأسبوع أول محادثات تجارية بين واشنطن وبكين منذ أن شن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حربًا تجارية ضد الصين هزت الأسواق المالية وأثارت مخاوف بشأن سلاسل التوريد. ويحدث ذلك في وقت تكثر فيه الأسئلة حول الدور الدولي لجنيف في ظل التحولات الجيوسياسية التي تعصف بالعالم. تقرير فاينانشيال تايمز عن التحديات التي تواجه هذا المركز الدبلوماسي العالمي.
في ظهيرة يوم معتدل من نهاية شهر أبريل، كان فندق ”أنجلتيرا“ ذو الخمس نجوم على ضفاف بحيرة جنيف، يستعيد نشاطه بعد ساعة غداء مزدحمة. ومع ذلك، لم يكن سكان عاصمة الدبلوماسية العالمية يظهرون بهجتهم المعتادة.
فمع حالة الاضطراب التي تشهدها التجارة العالميّة، وتزايد نفوذ الأنظمة السلطويّة، ومعاناة منظّمات الإغاثة من تخفيض التمويلات الأمريكيّة، يخشى المسؤولون في حوالي 450 هيئة دوليّة تتخذ من جنيف مقرًا لها، على مستقبل هذه المدينة باعتبارها ركيزة للسياسة العالمية.
ويقول كزافييه ري دي لاستيري، الرئيس التنفيذي لمجموعة ري التي تتخذ من جنيف مقراً لها، والتي تمتلك الفنادق والعقارات الأخرى، في سويسرا وخارجها، وتطوّرها: ”العالم في حركة تغيّر دائمة حاليا. ويحتاج الناس إلى الاجتماع والمناقشة، ونحن نرى ذلك في فنادقنا ومطاعمنا”.
وأضاف: “لا تزال جنيف هي المكان المناسب لتبادل المعلومات. وما يقلقنا هو الاختلاف الذي طرأ على وضع هذه المدينة خلال ستة أشهر.”

ورغم الصورة الكاريكاتورية التي تُصوَّر عليها أحيانا، كملاذٍ هادئ لوجبات النخبة الفاخرة والنفقات الضخمة، يقول سكان ثاني أكبر مدينة في سويسرا إنّها تلعب دورًا حاسمًا في النظام العالمي. فقد استضافت مؤتمرات قمة تاريخيّة خلال الحرب الباردة، واجتماع بايدن وبوتين في عام 2021، والمفاوضات التي مهّدت الطريق للاتفاق النووي الإيراني لعام 2015.
ويقول سامي كنعان، نائب عمدة جنيف: ”لدينا مثل متداول هنا بأن نيويورك بالنسبة إلى الأمم المتّحدة هي المطعم، ولكن جنيف هي المطبخ. فالعمل الحقيقي، الذي غالبًا ما يكون خلف الكواليس، يتم هنا في جنيف“.
وقال كنعان إنّ قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من منظّمة الصحّة العالمية التي تتّخذ من جنيف مقرًا لها، قد أطلق موجة من الإنذارات: ”لقد واجهنا أزمات من قبل، ولكن لا أعتقد أنّنا واجهنا هذا المستوى من التعقيد والإلحاح“.
وقد أدّت التخفيضات في التمويلات الأمريكيّة إلى تسريح الموظّفين والموظّفات، وخفض الميزانيات في العديد من الهيئات؛ بدءًا من المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، إلى اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر.
ويتطلّع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، إلى دمج وكالات الأمم المتحدة الرئيسيّة في عملية إصلاح جذريّ، وطلب من الإدارات محاولة نقل الموظّفين من جنيف، ونيويورك، إلى مدن أخرى أقلّ تكلفة.

المزيد
الولايات المتحدة تنسحب من منظمة الصحة العالمية غير عابئة بتداعيات قرارها
وفي الوقت نفسه، تخطّط منظّمة الصحّة العالميّة لخفض عدد موظّفيها وتضييق نطاق عملها، وقالت الولايات المتّحدة إنّ تمويل منظّمة التجارة العالميّة وغيرها ”قيد المراجعة“.
وليست الولايات المتحدة وحدها التي بصدد التخلي عن دورها في مجال العمل الإنساني، إذ تقوم بلدان في جميع أنحاء أوروبا بحملة إعادة تسليح دراماتيكية؛ فخفضت المملكة المتّحدة ميزانيّة مساعداتها الإنمائيّة، كما رفعت سويسرا المحايدة سقف إنفاقها الدفاعي بالمليارات للسنوات المقبلة، في حين خفضت من سقف مساعداتها الخارجيّة بملايين الفرنكات.
تراجع دور جنيف
وتعكس جنيف حاليا بعض أنماط التغيّرات الجيوسياسيّة العالميّة؛ إذ تلعب الصين دورًا أكبر، بينما يتراجع الحضور الأمريكي. ومن المتوقع أن تقدّم بكين أكثر من خُمس ميزانية الأمم المتّحدة لأوّل مرة هذا العام.
ويشرح فنسنت سوبيليا من غرفة التجارة في جنيف قائلا: ”الطبيعة تكره الفراغ، ويمكن أن يتدخّل آخرون الآن. فالصين نشطة للغاية هنا في ما يتعلّق بالدعم الصريح للتعددية“.
ولكن إلى جانب العمل الدبلوماسيّ المشروع، تستخدم بكين أيضًا موطئ قدمها في جنيف لمراقبة المنتقدين ومضايقتهم، وفقًا لتحقيق نشره الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين هذا الأسبوع. لكن نفت وزارة الخارجية الصينية ما ورد في التقرير، قائلة إنّها “تحترم تمامًا” قوانين الدول الأخرى.

المزيد
انحسار التمويل يهدد هُوِيَّة جنيف الدولية: من يُعوّض غياب الولايات المتحدة؟
وقال ماكسيم بروفيني، زعيم الحزب الليبرالي الراديكالي في جنيف، إن هناك حاجة ماسة إلى مصادر تمويل جديدة. وذكر بروفيني أنّ المدينة أصدرت قرضًا بقيمة مليوني فرنك سويسريّ (2،4 مليون دولار) للمنظمات غير الحكومية التي تتخذ من جنيف مقرًا لها، ولكن “لا يمكننا تحمّل مسؤولية هذه المنظمات كلّها”.
وتخفّض المفوضيّة السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين التكاليف بنسبة 30% في مقرها الرئيسي في جنيف، وفي المكاتب الإقليمية، مما يؤدّي إلى خفض عدد كبار الموظّفين والموظّفات إلى النصف، وذلك وفقًا لرسالة بريد إلكتروني أرسلت الأسبوع الماضي إلى جميع الموظّفين، واطلعت عليها صحيفة فاينانشيال تايمز. ومن المرجّح أن تخسر الأمم المتّحدة بشكل عام آلاف الوظائف، نسبة كبيرة منها في جنيف.
جوهر الهوية السويسرية
وقال ماثيو سالتمارش، رئيس قسم الأخبار والإعلام في مفوضيّة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان، قبل الإعلان عن التخفيضات الجديدة الأسبوع الماضي: ”من المرجح أن يكون هناك تأثير في المدينة، بما في ذلك دورها العالميّ كمركز إنساني“.
ولا يزال لدى جنيف قطاعات مصرفيّة خاصّة كبيرة وقطاع لتجارة المواد الأوّلية، والساعات الفاخرة، التي تعزّز اقتصادها، لكن الدبلوماسية والمساعدات هي محور هويّتها. ويشعر العديد من سكّان جنيف بالقلق من استضافة المملكة العربية السعودية لمفاوضات السلام بين روسيا وأوكرانيا، معتبرين ذلك دليلًا على أنهم يتخلفون عن الركب بسبب التحوّل السلطوي في النظام العالمي.
ويتقبل البعض بالفعل دورًا متناقصًا في العالم المقبل، ويحسبون حسابًا لما يجب أن يحافظوا عليه.
والسؤال هو: ”ما الذي نريد الاحتفاظ به؟. بالنسبة لجان كيلر، رئيس مجلس أمناء منظمة نداء جنيف، وهي منظمة تهدف إلى حماية المدنيين في النزاعات: “أعتقد أنّ كلّ ما يتعلق بالقانون الإنساني والسلام”، لأنّه يمكن لسويسرا المحايدة، أكثر من أي بلد آخر تقريبًا، أن تعمل في أماكن تشهد حروبًا رهيبة”.

المزيد
سويسرا تخفض المساعدات الدولية… ما مصير الفئات الأكثر حرمانا؟
وقد أدت هذه المخاوف إلى إطلاق نقاش حول جوهر الهويّة السويسريّة في بلد يفتخر باستقلاله عن بقيّة أوروبا.
ويقول اليمين المحافظ إن سويسرا نفسها تتحمّل مسؤوليّة في تراجع مكانة جنيف الدولية، وحجتهم في ذلك أن المحادثات الأوكرانية تجري في مكان آخر، لأن سويسرا تخلّت عن دورها الحيادي من خلال تبنيها عقوبات الاتحاد الأوروبي على روسيا.
”إن السبب الرئيسي لفقدان جنيف بريقها كمركز دولي، لا يعود إلى سحب المساعدات الأمريكية، بل لأن سويسرا اختارت التخلّي عن حيادها، وهذا ما يجعل مستقبلها أكثر غموضًا. “، كما قال فنسنت شالر، عضو حزب الشعب السويسري اليميني المحافظ في البرلمان المحلي في جنيف.
أما فرانسوا سافاري، مؤسّس شركة محلية لإدارة الثروات، فقد دعا إلى الوحدة في إنقاذ المدينة. وقال: ”إنها قضية وطنية، ويجب أن يشارك الجميع في حلّها“.
وقد أقرت الحكومتان الفدرالية والمحلية حزمًا من القروض والمنح لدعم العمل الدولي، والمنظمات الدولية في جنيف.
حقوق النشر محفوظة لفاينانشيال تايمز ليمتد 2025
ترجمة: عبد الحفيظ العبدلي
مراجعة: مي المهدي
التدقيق اللغوي: لمياء الواد

متوافق مع معايير الصحافة الموثوقة
المزيد: SWI swissinfo.ch تحصل على الاعتماد من طرف "مبادرة الثقة في الصحافة"
يمكنك العثور على نظرة عامة على المناقشات الجارية مع صحفيينا هنا . ارجو أن تنضم الينا!
إذا كنت ترغب في بدء محادثة حول موضوع أثير في هذه المقالة أو تريد الإبلاغ عن أخطاء واقعية ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني على [email protected].